خطبة: ليلة القدر                      

قال الله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر }   قال ابن عباس رضي الله عنهما:أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر من شهر رمضان . قال المفسرون : بيت العزة في سماء الدنيا . وفي تسميتها بليلة القدر خمسة وجوه:

أحدها : أن القدر هو العظمة وهي ليلة عظيمة .

الثاني  : أنه الضيق.فهي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينـزلون من السماء.

الثالث : أن القدر هو الحكم فان الأشياء تقدر فيها . . . .

الرابع  : أن من لم يكن له قدر يصير بمراعاتها ذا قدر. . . .                                   

الخامس: أنه نزل فيها كتاب ذو قدر وملائكة ذوو قدر . . .

واختلفوا هل ليلة القدر باقية إلى زماننا هذا . أم كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: على قولين أصحهما أنها باقية إلى زماننا هذا وأنها في شهر رمضان روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } وروى البخاري ومسلم أيضاً عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .رأى ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر من رمضان . فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر }.

وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها . يارسول الله :إن وافقتُ ليلة القدر فبم أدعو ؟ قال { قولي : اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فَاعْفُ عني }

عن محمد بن كعب رضي الله عنه ،  قال: بينما عمر رضي الله عنه جالس في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين إذ ذكروا ليلة القدر ومعهم ابن عباس رضي الله عنهما. فتكلم كلُ رجلٍ منهم بما سمع عنها. وسيدناعبد الله بن عباس ساكت . فقال له عمر رضي الله عنه . مالك لا تتكلم يا ابن عباس . تكلم ولا تمنعْكَ الحداثة فقال : إن الله تعالى وتر ويحب الوتر وإنه جعل أيام الدنيا تدور على سبع . وخلق الإنسان من سبع . وخلق أرزاقنا من سبع وجعل فوقنا سموات سبع . وجعل تحتنا أرضين سبع .  وجعل البحار سبعاً .وجعل ما يقع في السجود من أعضائنا سبعاً . وحرم من نكاح الأقربين سبعاً وقسم المواريث بينهم على سبع . وأعطى نبيه صلى الله عليه وسلم المثاني سبعاً ورمي الجمار بسبع. فأظنها والله أعلم في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فتعجب عمر رضي الله عنه . وقال : يا قوم : مَنّ كان يروي هذا كرواية ابن عباس رضي الله عنهما ..

أيها المؤمنون ..

انظروا ما خصكم الله به من الإنعام والإكرام وحباكم به من العطايا الجسام . وشرفكم بنبي الرحمة ورسول الهدى . وأنقذكم ببركته من الردى . فاستدركوا رحمكم الله مواسم العمر . واغتنموا ليلة القدر.فلعل أن تُكتبوا في ديوان السعدا فانها ليلة تفوق ليالي الدهر . وهي خير من ألف شهر . ما دعا الله فيها داع إلا أجابه . وبلغه أملاً ومقصدا . فيا فوز من أحياها ويا سعادةَ عبد رآها .وقد قالوا في معنى قوله تعالى . { ليلة القدر خير من ألف شهر } يعني الرحمةُ في هذه الليلة وحدها خير واكثر من الرحمة في ألف شهر ..

يا أيها العبد قم لله مجتهداً                وانهض كما نهضتْ من قَبلِك السعدا

هذه ليالي الرضا وافَتْ وأنت على        فعل القبيح مُصِرَّاً ما جلوتَ صدا

قم فاغتنم ليلة تحيا النفوسُ بها             ومثلها لم يكن في فضلها أبدا

طوبى لمن مرةً في العمر أدركها           ونال منها الذي يبغيه مجتهدا

فليلةُ القدر خيرٌ قال خالقنا              من ألف شهر هنيَّاً منْ لها شَهِدا

فيها القرآنُ بأمر الله أنزله                إلى السماء وقد خاب الذي جحدا

في ليلة القدر جلَّ اللهُ أنزله                        بعلمه وبهذا النصِ قد وردا

يافوز عبدٍ رآها إنه رجل                     قد عاش في الدهر عَيشاً دائماً رغداً

وفاز بالأمن والغفران مغتبطِاً                      ونال ماَيرتجي من ربه أبدا

فاطلب من الله إن وافيتها سَحَراً             جناتِ عدن تكون من جملة السعدا

وابكِ ونُحْ وتضرع في الدجى أسفاً              ولُذْ بجاه شفيع المذنبين غدا

خيرِ البرية من عَجَمِ ومن عُرْبٍ               محمدٍ خير مبعوث بدين هدى

هو البشير النذير المستضاء به                وَمنْ بإحسانه عمَّ الأنام ندى

وأنه خير من يمشي على قدم                 وخيرُ من فاق مولوداً ومَنْ وُلِدا

صلى عليه إله العرش ماطلعت               شمس وماسار سارٍ في الفلا وَحَدَا

اخواني مضى شهر رمضان . وكأنه ماكان. وشهد على المسيء بالاساءة . وعلى المحسن بالاحسان . وحصل على كل ما قُسم له من رِبح وخسران . فيا حسرة المفرط لقد أضاع الزمان . وياخيبة المسوف كأنه أخذ من الموت الأمان . . .

هذا شهركم قد انتصب لكم مودعا وقد عزم على الانصراف والانصرام . ونوى النُّقلة عنكم والرحيل بعد مقام . وهو شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الاعمال عند الملك العلام . فالسعيد من بادر هذه البقية بالاغتنام. والشقي من جعل هذه البقية بغفلة كالإعدام . يقول الله تعالى . في بعض كتبه المنـزلة . { ياعبدي تأهبْ للقائي . فعن قريبٍ ألقاك . وأقبل على خدمتي فاني أنا مولاك . بأي عين يراني من بارزني وعصاني .بأيِّ وجهٍ يلقاني مَنْ نسي عَظَمَةَ شاني . لقد خاب من حجبته عني إذا قَرَّبْتُ الصادقين مني . وشقي من طردته عن جنابي . إذا كشفت حجابي فتجليت للمتقين من أحبابي . . .ياعبدي : قف على بابي فأنا الكريم . ولُذْ بجنابي فصراطي مستقيم . . .

أيها الاحباب :

فياحظ من سمع النداء . وأجاب الدعاء . ورُزق التوفيق . ومُنح الرشاد . .فأقبل بروحه وجسمه . وإيمانِه وعمله . وتقدَّمَ إلى ربه مخلصَ النية . صادقَ القصد لله . يخشى عقوبته . ويرجو رحمته ليحظى بالقرب . ويفوزُ بالقبول . . تمرُّ ليلةُ القدر بين الليالي في أبهى صورها وجمالها.فمن شَمَّرَ للقائها.وأسهر عينيه في انتظارها . مقبلاً لا مدبر . ومحسناً لا مسيئاً . استحق الأجر وفاز بالإنعام ..

قال تعالى . { فأما من أعطى واتقى.وصدق بالحسنى.فسنيسره لليسرى }

 وليست ليلة القدر كوكباً أو صورةً تظهر لك . وليست كنـزاً تدفعه الصدفة أو يصل إليه البحث . وإنما هي ليله تطلب العمل والصلاة والقيام ومجانبة الشر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه }

خطبة الجمعة في جامع الدلامية                                                                                                             

للشيخ حسين صعبية

بتاريخ 25 رمضان 1418 هجري

الموافق 23/1/1998 م